21/01/2007

الخطاب النسوي واللغة

لم تختلف النّسوية بكل اتجاهاتها ونظرياتها المختلفة, حتى الراديكالية المتحررة، التي بدت متطرفة في طروحاتها, حول ضرورة مشاركة الرجل في شتى ميادين الحياة, السياسية, الاقتصادية, الفكرية، الثقافية، والاجتماعية, إلخ... وعلى أنها لا تهدف إلى استبدال مركزية ذكورية بأخرى نسوية.
تُجمع النظريات النّسوية على مناهضة هيمنة القطب الواحد على العالم. وذلك لخلق التوازن, وتحقيق العدالة, وإصلاح ما أفسدته البطريركية الذكورية عبر قرون طويلة بمركزيتها الاستبدادية, وقطبها الواحد الذي هيمن على الحياة، وأودى بالبشرية إلى ما وصلت إليه من كوارث سياسية, اقتصادية, اجتماعية، وبيئية إلخ... تلك البطريركية التي بدت الحياة معها كأنها حق للرجل وواجب على المرأة. وإمعانا في استبداديتها فقد عملت على تشويه البشرية, نساءً ورجالاً, على حدٍّ سواء.
لابد للاستبداد, مهما طال الزمان به, أن ينشئ, من حيث لا يدري ولا يقصد ولا يريد, مقاومة تتعادل معها كفتا الميزان, فكانت النّسوية.

يشير مصطلح النسوية إلى كل من يعتقد بأن المرأة تأخذ مكانة أدنى من الرجل في المجتمعات التي تضع الرجال والنساء في تصانيف اقتصادية أو ثقافية مختلفة. وتصرّ النسوية على أن هذا الظلم ليس ثابتاً أو محتوماً, وأن المرأة تستطيع أن تغيّر النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي عن طريق العمل الجماعي. ومن هنا فإن المسعى النسوي هو تغيير وضع المرأة في المجتمع.
لقد حاولت فلسفة العلم النسوية, الرافضة للتفسير الذكوري الوحيد المطروح للعلم بنواتجه السلبية, إبراز وتفعيل جوانب ومجالات وقيم مختلفة خاصة بالأنثى, جرى تهميشها وإنكارها والحط من شأنها بحكم السيطرة الذكورية, في حين يجب أن يفسح لها المجال وتقوم بدور أكبر لإحداث توازن منشود في مسار الحضارة والفكر.
نشأت النسوية في العقد الأخير من القرن التاسع عشر, وهي في أصولها حركة سياسية تهدف إلى غايات اجتماعية تتمثل في حقوق المرأة وإثبات ذاتها ودورها. وقد توالد عنها فيما بعد فكر نسوي, وفي سبعينيات القرن العشرين نجم عنها فلسفة نسوية.
وانطلاقاً من مبدأ المشاركة, فإن النسوية موقف، بإمكان كل من المرأة والرجل تبني مواقفها والسعي إلى تحقيق أهدافها.
يعتبر كتاب "استعباد النساء" 1968, للفيلسوف "جون مل ستيوارت", إعلاناً للحركة النسوية والنص النسوي بكل المعايير وقبل ظهور مصطلح النسوية ذاته. وقد استهل "مل" كتابه هذا بقناعاته الراسخة التي تؤمن بأن: "المبدأ الذي ينظّم العلاقات الاجتماعية الكائنة بين الجنسين, أي تبعية أحدهما القانونية للآخر, إنما هو مبدأ خاطئ في ذاته, وينبغي أن يحل محله مبدأ المساواة الكاملة التي لا تسمح بسلطة أو سيادة أحد الجانبين على الآخر..."
ظلت البطريركية الذكورية تعمل طوال عقود على حماية السلطة والسيادة أحادية القطب والمركزية, ولم يتوقف الأمر معها عند عدم إشراك المرأة والاعتراف بجدارتها وإمكانية اكتشاف قدراتها وممارسة خبراتها, وإنما على تهميشها وقمعها والنظر إليها على أنها آخر دوني, ولطالما نظر إليها على أنها شرٌّ. إلى أن رسخوا لديها تلك القناعة في أغلب الأحيان.
لم يقتصر بطاركة الاستبداد الذكوري على سلب المرأة حقها الطبيعي في تنمية وتطوير مجالات الحياة، أو على حرمانها من حقوقها القانونية والشخصية, وطمس أسماء كثيرات أسهمن وأبدعن في شتى مجالات العلم والفكر والأدب والبيئة إلخ... أو على سلبها اسم عائلتها حين تصبح زوجة, لتنتمي بتبعية مطلقة إلى زوجها, ثم لتأتي الأمومة وتطمس أي اسم لها لتصبح أم فلان أو علان دون أية علامة فارقة. وإنما زادت البطريركية على ذلك بأن نبذتها من الخطاب اللغوي السائد.
ولا يغرّنا أو يفرحنا ما يتوجه به خطباء المنابر الرسمية والإعلامية بادئين الخطاب بتحية إلى السيدات أولاً ثم إلى السادة.. إلى الأخوات ثم الأخوة. ولن يتعدى ذلك تلك المقولة التي أفرزتها الإتيكيت الذكورية Ladys first, لماذا السيدات أولاً وكيف؟ من نافل القول إن لغة الاستبداد لغة منافقة.
جاء في تعريف اللغة أنها نسق من الإشارات والرموز يشكل أداة المعرفة, ويعمل على حفظ واستعادة منتجات الثقافة الروحية والعشرة البشرية. ومن دون اللغة يتعذر نشاط الإنسان المعرفي. فأفكار الإنسان تصاغ دوماً في قالب لغوي, حتى في حال تفكيره الباطني. واللغة ترمز إلى الأشياء المنعكسة فيها, فرموزها تبدو كأنها تحل محل الأشياء المنعكسة فيها.
تبعاً لهذا التعريف فإن ما ينعكس في اللغة خطاب ذكوري مستبد, وعلى اعتبار أن هذا الخطاب قد همّش المرأة وجردها من الحضور الفعال, فإن المرأة غائبة. وبالتالي فإن اللغة لن تعكس ما هو غائب. وإن كانت اللغة تعكس الأشياء المنعكسة فيها, فهي مثل المرآة لا تعرف الكذب، ولن يكون بمقدورها أن تحجب أو تضيف أوتعكس تبعاً لمزاجيها. ومن نافل القول إن اللغة مُختلَقة وغير خالقة, مصنوعة وغير صانعة, فإن واقع حالها يدل على عدم الانحياد وعدم الموضوعية, وأن الصانع قد خلقها تبعاً لمزاجيته ومصالحه, حتى أنه بدا متناقضاً, وإلاّ لكانت اللغة, بحسب التعريف المتفق عليه والموافق عليه من قبل البطاركة الذكوريين أنفسهم, قد عكست ما هو موجود فعلاً, لكانت عكست مفردات مثل: الأستاذة والدكتورة والمهندسة والنائبة والقاضية والتاجرة...، أم أن أولاء غير موجودات بالفعل، وأنهن مجرد أوهام وخيال وظلال؟!
في اللغة العربية, اخترعت كلمة: أََمَة, فلماذا لم تُكرّس مفردة عبدة مثلاً, مؤنث عبد, أم أنه وحده عبد الله مفرد لجمع عباد الله؟ ألم يتوجه الخطاب القرآني, في أحيان كثيرة, بوعده ووعيده إلى الذكور والإناث كل على حدة, وقد ذكر المؤمنين والمؤمنات, الصالحين والصالحات, القانتين والقاتنات, الزانين والزانيات، الملحدين والملحدات...؟!
في اللغة الفرنسية نجد أن كلمة homme , وكلمة men في الإنجليزية تعنيان الإنسان والرجل. أليس في ذلك تحيزاً يومياً للرجل في اللغة الاجتماعية. هذا ما قالت به المنظرة النسوية "ديل سبيندر" 1980 .
أما المنظرة النسوية "كيت ميليت" فقد قامت بتحليل للقوالب النمطية الأدبية في كتابها "السياسات المنحازة للرجل" 1970, والذي تستند عليه الدراسات النسوية الحالية للاستخدامات اللغوية.
كانت اللغويات (علم اللغة) من أبرز المجالات التي شهدت مدّاً لافتاً, ينطلق من مسلّمة معاصرة تقول: "إن اللغة ليست مجرد وسيط شفاف يحمل المعنى. بل هي مؤسسة اجتماعية محمّلة بأهداف ومعايير وقيم المجتمع المعني. وبالتالي قامت اللغة بدورها في تجسيد الذكورية المهيمنة, وهذا ما ينبغي كشفه توطيداً للتحرر منه." وتبعاً لهذه المسلّمة فإن اللغة صنيعة الرجل، أي الإنسان, وعليه فإن التشكيك وإعادة النظر فيها لن يكون كفراً أو جريمة, وخاصة أن هذه الصنيعة لم تكن منصفة حين ألغت من خطابها التعبيرات والمفردات الخاصة بالأنثى.
لقد عمل المنظرون والمنظرات, المفكرون والمفكرات, اللغويون واللغويات لإعادة التوازن والسلامة إلى عالم أعور وأعرج وأصم بالتأكيد, وإلاّ لكان رأى وسمع وهرع بقدميه لوقف كوارث نتاج البطريركية الذكورية.
ألا يستدعي العجب وربما السخرية أن تكون عبارة بطريركية ذكورية مؤنثة؟! لا ضير عليهم إذن وهم يستدفئون في دورانية تاءات التأنيث، وحنان صدرها, حكمتها,حدسها الراداري, وعقلها الذي أهّلها لتكون على منزلة هامة من العلم والفلسفة والتصوف والأدب والإبداع بشتى مجالاته.

يجب على الأجيال اللاحقة تطوير ما أنتجه السابقون, والعمل على تحويل التنظير إلى واقع. لا شك أن الجهد كبير ويحتاج مؤسسات لتنفيذه. وإن كانت الألف ميل تبدأ بخطوة, فلماذا لا نبدأها في المناهج التربوية في مدارسنا التي تعتبر أول الخطو في التعلم والمعرفة, وندرج في الكتب إلى جانب ما له: ما لها، وما عليه: ما عليها. لم لا وقد باتت الأخت والأم والجدة والخالة والعمة والجارة مدرّسات وطبيبات, عالمات وتاجرات, سائقات وشرطيات, ومناضلات شهيدات إلخ...
لعل مهتم جاد, ينفر من سخرية الحاضرين, ويسأل عن حجم البلبلة وحجم الأزمة التي ستنجم عن استهلاك مزيدٍ من الحبر والورق والجهد والوقت الذي قد يطول لاستيعاب الأمر وتمثله. وستكون الأزمة حقيقية ومباشرة فيما لو كان السائل صحفياً, فإن عدد الكلمات سيزداد دون فائدة جوهرية! أما بالنسبة للزمن الذي يقتضي فيه تمثل لغة الأنوثة وحضورها في اللغة, فإنه باعتقادي يوازي ما احتاجه البطاركة الذكور سابقاً للتصديق بكروية الأرض.
أي اختصار مرير يربك ويفقد التوازن؟ اختصار الكلمات والمفردات الموجهة للمرأة, أم اختصار حضور المرأة الفعال والحقيقي؟ هذا الحضور الذي دفعت النساء ثمنه غالياً خلال ألفي سنة مضت.
إن الصراع والنضال من أجل قضية المرأة وتحررها, الذي بدأ مع "ماري ولستونكرفت", مروراً بقاسم أمين, نظيرة زين الدين, هدى شعراوي, ومن لويس آلتوسير إلى كيت ميليت, وجولييت ميتشل, وغاياتري سبيفاك... لن ينتهيا, بالتأكيد, مع نساء من أجل الديمقراطية.
رباب هلال

المراجع:
1-النسوية وفلسفة العلم، د. يمنى لطيف الخولي, عالم الفكر, المجلد34
2- النسوية وما بعد النسوية, سارة جامبل, ترجمة أحمد الشامي, المجلس الأعلى للثقافة, القاهرة.

Aucun commentaire: