21/01/2007

تدوير الزوايا الحادة

لطالما حاولت مقولات الثورة الألسنية في القرن العشرين، من سوسير وويتغنشتاين إلى النظرية الأدبية المعاصرة، جعلنا نقتنع أن المعنى ليس شيئاً تعبّر عنه اللغة أو تعكسه، إنما هو فعلياً شيء تنتجه اللغة. على هذا، وبناء على تلك المقولات، فالمتسلّط على اللغة متسلّط على المعنى، ينتجه على هواه وديدنه، والأهم أنه ينتجه حسب مقولاته التي يدفع بها ويكرّسها بالكتابة/ اللغة. هذا ما فعلته بالضبط السلطة البطريركية، على مرّ التاريخ، تاريخ الكتابة، عملت على إنتاج المعنى، بتحكمها المطلق بدفة الكتابة. طبعاً ليس بخافٍ على مطّلع أن الكتابة (البطريركية) ليست مقتصرة على الرجل فحسب، فلطالما ساهمت الأقلام النسائية الرازحة تحت ثقل السطوة البطريركية بتعميق تلك الكتابة. كل ذلك جعل من تفعيل كتابة الهامش ضرورة لا بديل عنها، وجعلها أيضاً من أهم الصرخات التي أطلقتها مدارس ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين، صيحات تدعونا كي نستمع إلى كل صوت سبق وأجبر على الصمت: الهامش بكل أطيافه المتفاوتة عرقياً وأقوامياً وطبقياً وجنسانياً.
جاء تكريس الكتابة النسوية باعتبارها من أهم كتابات الهامش، وأقصد بالنسوية (في الكتابة) كمصطلح يعنى بالكتابة ضد السلطة والثابت والمغلق، أي إنها كتابة تتنصر للهامشي والبري والمنفتح، سواء أكان كاتبها رجل أو كاتبتها امرأة. لكن وباعتبار أن المرأة، كجنس، حُرمت على مرّ الوقت من إجهار رأيها وصوتها، كمخلوق (ضعيف)!، فقد كانت كتابة المرأة من أوائل كتابات الهامش حاجة للإجهار.
الكتابة، كفعل ثقافي، جزء لا يتجزأ من الممارسة الفاعلة والديمقراطية للمرأة. باعتبارها محاولة لإعادة كتابة التاريخ بعيون مغايرة، بقلم مغاير: قلم أنثى. على هذا سنعرف وجهات نظر جديدة لم نقرأها بعد، وسنتحسس بناء على ذلك لغة جديدة لم تكتب بعد، لغة أنثى كان آخر همّ للتاريخ أن يسمعها أو يدوّن بها. ليست وجهة النظر القديمة، حيث سجنت الكتابة النسائية في مواضيع ولغة ساذجة، بل وجهة النظر الراسخة والعميقة في كل شيء، ابتداء بالدهشة والحب، وليس انتهاء بالحرب ونظام الكون.
وكي نكون منصفين أستطيع استعارة مقولة إلين شوولتر إحدى رائدات النقد النسوي الأنكلوساكسوني: ليست المشكلة أن اللغة لا تكفي للتعبير عن الوعي الإنساني، لكنها في كون النساء حرمن من استعمال كامل المصادر اللغوية، وأرغمن على الصمت، أو على التلطف أو على الإطناب في التعبير.
هذه الجملة ستكون صدى لكثير من مدارس النقد النسوي التي نشأت في أوروبا وأميركا كتجلي لما بعد الحداثة، ولالتفات العالم إلى الهامشيين ومن ضمنهم المرأة، لتظهر مقولات تأنيث الكتابة وتأنيث العلم وتأنيث العالم... والكتابة باعتبارها سفر لتدوين العالم، أو لإعادة إنتاجه من جديد، فقد كانت عصيّة على النساء. إذ، كما قلت، عانت الكتابة النسائية سابقاً من وضوح الذات العالي ووجود الأنا المهيمن. أي أن المرسل، حسب تعبير النقاد البنيويين، كان حاضراً بشكل مستفز حقاً. كما أن مواضيع الكتابة النسائية، كما لغتها، كانت هشة بالغة السذاجة، ومعدة سلفاً لمجموعة من الخيارات التي لا تحيد عنها، وإن حاولت فالويل لها، وسيكون مصيرها كمصير إميلي برونتي صاحبة الرواية الشهيرة :"مرتفعات وذرينغ" والتي اتهمت بأنوثتها، جواز مرورها الوحيد وهويتها في عالم الإنسان، إذ ما من انتماء آخر قد يقبل من امرأة إلا كونها امرأة. وفيما بعد دفعت الكثيرات من الكاتبات العربيات أثماناً باهظة للأسباب نفسها، ابتدأت باتهام مي زيادة بالجنون، ولم تنتهِ بانتحار درية شفيق. وستمر فترة طويلة قبل أن تستطيع النساء امتلاك وظيفة الكتابة: وظيفة الكتابة تحريض الأسئلة، تحريض القارئ على إعادة الإنتاج الفكري والثقافي، وتحريض الجمال الكامن في نفس القارئ.
وباعتبار أن القارئ هو جزء لا يتجزأ من منظومة الكتابة، فإنه سيحمل كل إرث البطريركية الكتابية في دماغه. وصدى الكتابة، النتيجة الأهم، هي ترددات على جدران وعي ذاك القارئ.
البنيويون كانوا يعدون القارئ المثالي لعمل ما: الشخص الذي يملك في متناوله وتصرفه كل السنن التي تجعل العمل مفهوماً بصورة شاملة. أي أن القارئ، حسب رؤيتهم، يجب أن يكون فاعلاً فلا يقوم بشيء ممل ورتيب كما هو فعلاً. هي فكرة: السوبر قارئ. ذاك الذي يجب أن يكون بلا دولة، أو طبقة، أو جنس. متحرر من أية خصائص أقوامية (إثنية) أو افتراضات ثقافية مقيدة أو سلطات خارجية، خارج وعيه الذاتي.
وعلى هذا فالقارئ العربي المثالي هو تصور سكوني. وحقيقة، حسب قناعتي، فإن أحكام الكفاءة لديه نسبية ثقافياً وإيديولوجياً، وكل قراءة لديه تشمل على تحريك افتراضات خارج- أدبية.
يصطدم النص العربي النسائي، كما يصطدم أي فعل عربي نسائي، بقارئ ومشاهد ومراقب يحمل كل ما قد يوصف بالقراءة الخاطئة. القراءة الخاطئة للتجربة النسائية بالعموم. تلك التي تجعل قارئاً ما ينظر إلى كتابات المرأة، مثلاً، باعتبارها جزءاً من سلوكها الاجتماعي، وكل خبرة لأبطالها تحال إلى خبرتها الشخصية وتجاربها. وينظر إلى نشاط المرأة باعتباره جزءاً من مجموعة مهام أنيطت بها منذ فجر التاريخ، فإن شذت عنها فهي في حكم الموؤودة اجتماعياً. خصوصاً إذا كانت فاعلية المرأة تتعلق بشكل من الأشكال بالمسلة التي تنخز جنب المراقب الشرقي أي أحد التابويات الثلاثة: السياسة أو الدين أو الجنس. ثم بناء على وهم المساواة يقوم بتحويل المرأة إلى كائن ملتبس الجنس، فلاهي امرأة ولا هي رجل. ستحاكم، إذا نظر إليها بعين الرأفة، بأن إنتاجها إنساني (ملتبس أيضاً) ودون أي خصوصية. وما عدا ذلك، فسيحاكم إنتاجها، إذا وضع في خانة النسوي، باعتباره دونياً ولديه مواضيع محددة ومجهزة سلفاً يتطرق إليها، وخارج التصنيف الرفيع للإنتاج (الإنساني)!!!.
بما إننا لا نعرف من المصطلحات إلا أسماءها، ولا ندري كيفية نشأتها وظروف تشكلها، ولأنها لا تأتي إلينا إلا معلبة كأية مادة مستوردة، وعلى ظهر سلحفاة عجوز منهكة، سيكون السؤال المعتاد حدّ الملل: وهل هناك أدب رجالي وأدب نسائي؟!!
لا أعرف متى سنقتنع أن الأدب النسوي ليس إقامة معتزلات أدبية رجالية- نسائية، ولا تكريس فلكلور للبنى والصور والعلاقات والشخصيات الإبداعية النسائية. إنما هو أدب هامش في مواجهة أدب مجتمع، والأدب (الرجالي) الذي يوضع بشكل أوتوماتيكي في مواجهة الأدب النسوي حال ذكره، هو بالأحرى أدب المنظومة البطريركية المطلقة والمتسلطة.
وإذا كان الغرب، مصنع المصطلحات وأرض التفاعلات، قد قطع شوطاً كبيراً على هذا الصعيد فإن النقد العربي والذائقة العربية ما زالت بعيدة جداً عن الاعتراف بها، وأعتقد أن أمام الكاتبة العربية أشواطاً كبيرة لتثبت خروجها من الحريم، ولتثبت حقها في الصوت، وفي الفاعلية، وأن باستطاعتها أن تكون موجودة وقد دخلت أتون الكتابة بعيداً عن المواضيع السابقة التي سجنت فيها، أتون الكتابة الحقة كي تحترق كما كل المبدعين.
روزا ياسين حسن

Aucun commentaire: